شخصيته الاستثنائية
تجمّعت في شخص الملك حسين استثناءات عديدة، سواء على المستوى الشخصي أو العام، وهذه الاستثناءات جعلت منه شخصية استثنائية بامتياز، وقد تمكّن بفضل ذلك السير بالأردن في طريق تُجنّبُه المغامرة، وكان مقياسه ذهبياً أحياناً، أي دقيقاً لكلّ خطوة يخطوها، لأن أي خطأ أو عدم تقدير سليم سيكلف الأردن خسائر فادحة بما فيها وجودها، وهو ما فتح أبواباً أمامها للتنمية والتقدم، ومن ينظر إلى مسيرة الدولة الأردنية ويعرف إمكاناتها الشحيحة والمخاطر التي تحيط بها يدرك حقيقة الدور الاستثنائي الذي لعبه الملك حسين بنجاح واقتدار وأفق مستقبلي.
وتتجلى عناصر استثنائية الملك حسين في:
1. قدرته الاستثنائية على استنباط الجوهري من الأشياء وعلى الرغم من اهتمامه بالتفاصيل التي قد تقود إلى الجحيم أو الهلاك أحياناً، إلاّ أنه كان ينظر بشمولية إلى المشهد العام وكان حريصاً عليه، مثل حرصه على التدقيق في التفاصيل.
وبقدر اتساع رؤيته فقد عمل بواقعية استثنائية أيضاً ، معتبراً السياسة فن الممكن دائماً (صراع واتفاق مصالح) وهي كانت كذلك منذ أرسطو وكتابه “السياسة”: تحقيق الخير العام ووصولاً إلى عبد الرحمن بن خلدون، دون طموحات أقرب إلى الأوهام ودون يأس أقرب إلى الاستسلام، فرغم الظروف الصعبة واضطراره لتقديم تنازلات أحياناً، لكنه بقي ماسكاً بالجوهر والمضمون، ولذلك امتاز بأنه صاحب مبادرات ومشاريع باستمرار، فعقله ظلّ شغّالاً ومنفتحاً وحيوياً حتى آخر لحظة من حياته، فضلاً عن نظرته المستقبلية.
2. شخصيته الكاريزمية الاستثنائية، وهي شخصية آسرة، وهو ما يدرس في إطار أدبيات علم الاجتماع السياسي والعلوم السياسية، والمقصود بذلك دور الفرد في التاريخ، أي ما يمكن أن يلعبه القائد أو الزعيم في السياسات العامة وفي الحرب والسلم وفي البناء والهدم والتأثير على الآخر، صديقاً أو خصماً أو عدواً، وهذا يندرج في علم النفس الاجتماعي، وغالباً ما تكون لمثل هذه الشخصيات قدرة في التأثير على الآخر، مثلما لها قدرة على الإقناع، ناهيك عمّا يمنحه من ثقة سرعان ما تنتقل إلى الغير، فتنفتح أمامه فرصاً ونوافذ وحتى بعض المغاليق من خلال صداقة تمتد بجسور من التواصل، فما بالك حين يكون مصحوباً بأدوات حديثة من علم الإدارة ، الذي سيكون نجاح أي خطةٍ مستنداً إليه وإلى الإدارة الحكيمة.
3. تواضعه الاستثنائي، وهو ما يجمع عليه كلّ من قابلوه أو التقوا به أو استمعوا إليه، وقُدّرَ لي، لمرة واحدة، أن ألتقي به وإن كان بحضورٍ عام في لندن (لدى السيّد عبد المجيد الخوئي)، إلاّ أني بقيت أراقبه طيلة فترة وجوده، وكنت أُصغي إلى حديثه وكلماته، فضلاً عن اختيار مفرداته، ومع الأسف ضاعت عليّ فرصة اللقاء المباشر والخاص، حين طلب لقاء بعض الشخصيات العراقية في لندن ، وكنت حينها مسافراً، وحصل أن تجدّدت الفكرة لاحقاً باتصال من اللواء عبدالإله الكردي السفير لاحقاً، لكن ذلك لم يحصل حتى خلال دعوتي إلى الأردن من رئيس مجلس النواب سعد هايل السرور، بسبب تدهور صحّته الذي حال دون ذلك.
ومثل هذا التواضع ينطلق من تربيته العائلية، وإضافة إلى حُسن معشره، منذ أن كان طفلاً مع أقرانه في المدرسة، فلم يشعر يوماً بالتعالي أوالتكبّر عليهم وهو ما يستذكره الأردنيون من الناس البسطاء الذين أحبوه حبّاً جمّاً، بل بكوا بكاءً مرّاً حين رحيله.
وقد نقلتُ في بحث لي عن الملك حسين بعد عام على رحيله قدّمته إلى “المؤتمر الفكري الدولي” العام 2000 في جامعة معان (الأردن) والموسوم” الملك حسين: الحاكم والإنسان وسؤال التسامح”، ما قالته الصديقة د. ليلى شرف وزيرة الإعلام الأسبق وعضو مجلس الأعيان سابقاً، وهذا الاقتباس يمثّل نموذجاً لعلاقة الحاكم بالمحكوم، ومن هو في قمّة الهرم ﺒمن هو في قاعدته، وذلك نقلاً عن شابة أردنية روت لها بأن أمها خاطبت زائرين (أجانب) عبّروا عن دهشتهم لما شاهدوه من مظاهر الحزن التي تلت وفاة الملك حين قالت لهم : انظروا، لم يسبق لي أن قابلت الملك أو صافحته، كما لم يسبق له أن مرّ شخصيّاً بجوارنا ولم أرَه شخصياً أبداً، إلاّ أنني في كل مساء عندما أعدّ مائدة العشاء، أشعر أن هناك شخصاً غائباً عنّا.
وتلك الحادثة بالغة الدلالة على النوافذ المفتوحة بين الحاكم والمحكوم، على الرغم من جميع التعقيدات التي أحاطت بها والملابسات التي عرفتها أجواء التوتر السياسي أحياناً وبيروقراطية الدولة ودواوينيّتها وتجاوزاتها أحياناً على حقوق المواطنين وحريّاتهم وهو ما ينبغي أخذه بسياقه التاريخي.
ولعلّ السيماء الشخصي للملك حسين وروح السخاء والبساطة والمروءة التي امتاز بها هي التي جعلته قريباً من الحس الشعبي. وحسب ليلى شرف، فالأردنيون يشعرون أنهم يعرفونه فرداً فرداً وأنهم يستطيعون اللجوء إليه في أوقات الشدّة. وهو ما سمعته من دولة أحمد عبيدات ودولة طاهر المصري ودولة عدنان بدران ومعالي سمير الحباشنة ومعالي جواد العنّاني وآخرين.
4. تسامحه الاستثنائي الجّم فقد امتاز بتواضع الكبار، وكلما تسامت النفوس تواضعت، ولم يكن ذلك متكلّفاً أو مصطنعاً، وإنما كان نابغاً من سويّة إنسانية وخلق رفيع ، فالتسامح بالنسبة إليه يقوم على أسس أخلاقية وحضارية وإنسانية، وهو ما شكّل صورةً للدولة الأردنية وأصبح ملمحاً من ملامحها حتى اقترب من القاعدة الحقوقية، حيث أصبحت حالة عامة، وهو ما يطبع علاقة الحاكم بالإنسان، وحين تجري مقارنة بينه وبين صدام حسين مثلاً أو حسني مبارك أو معمّر القذّافي، ستجد فرقاً شاسعاً بين شخصية الملك حسين المتواضعة وبين هذه الشخصيات المتغطرسة، وهو فرق بين التواضع والتعالي وبين التسامح والتعصّب وبين الشموخ والغرور.
وقد ذكرت في البحث الذي جرت الإشارة إليه، أنه لم يلتجأ إلى إعدام شخص واحد خلال كل فترة حكمه، على الرغم من العديد من محاولات الانقلاب العسكري التي قامت ضدّه، لكنّه بعد حين يلجأ إلى تخفيف الأحكام من الإعدام إلى المؤبد، ومع مرور الوقت يتم الإفراج عن المحكومين، وفي الغالب، تتم معاملتهم بالحسنى، وبعضهم احتل مناصب رفيعة.
وقد تطورت نظرته المتسامحة مع نضج تجربته وأصبح التسامح الوسيلة الأكثر ملائمة لتحقيق المثل الإنسانية والقيم العليا، فلم يجلب العنف غير العنف والانتقام غير الانتقام والكراهية غير الكراهية ،ﻓ رذيلتان لا تنتجان فضيلة، و ظلمان لا ينجبان عدلاً وقد كان حقّاً قريباً من إعلان منظمة اليونسكو الصادر في 16 تشرين الثاني / نوفمبر 1995 “إعلان مبادئ التسامح” ، لأنه أدرك أن نقيض التسامح هو اللّاتسامح ، ونقيض اللّاعنف هو العنف، وهما ينجمان عن التعصّب ووليده التطرّف، وحين يصير الأخير سلوكاً يصبح عنفاً، وإذا ما ضرب العنف عشوائياً فإنه يتحول إلى “إرهاب” و”إرهاب دولي”، حين يكون عابراً للحدود.
إن إيمانه بمبادئ التسامح جعله أميل إلى الاعتدال والوسطية، وحين يصبح الحاكم بمثل هذا الفهم والمسؤولية، فإنه يتطلّع بعدلٍ إلى الدولة وبنائها وترسيخها وحقوق المواطن ومستقبله، بل يحاول معالجة ما ينشأ من ظواهر سلبية وممارسات خاطئة وانتهاكات لحقوق الإنسان، لأنها ستعود بالضرر على الدولة وعليه.
إن وسطيّته واعتداله جعلت من إيمانه الديني بعيداً عن التعصّب والتطرّف، فقد كان مؤمناً بحب الحياة وفي الوقت نفسه معتقداً باليوم الآخر، وغالباً ما تأتي آيات قرآنية على لسانه، على نحو عفوي وغير متكلّف وهو ما وجدته أيضاً لدى شقيقه سمو الأمير الحسن، الذي يكاد يكون الوجه الآخر للملك حسين، وهو ما أشرت إليه في بحث عن سمو الأمير الحسن الموسوم:” لا يكتمل نصفه إلاّ بالنصف الآخر”.